فصل: مطلب: في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: في النسخ وأسبابه وأنه لا يكون إلا بمثله أو خير منه:

قال تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها} نفعا وأسهل عملا وأيسر فعلا وأكثر أجرا وأعظم ثوابا، لا أن آية خير من آية، لأن كلام اللّه كله خير وكلمه واحد، وقال بعض المفسرين نذهب بحفظها من القلوب ومحوها من الكتب، فلم نبق لها أثرا، وقرئ ننسئها أي نؤخرها لوقت آخر: {أَوْ} ننزل: {مِثْلِها} في النفع واليسر والسهولة والثواب والأجر كالصرف عن استقبال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في الصلاة، لأن المصلي عليه أن يتوجه حيث أمره اللّه تعالى، فلا فرق عنده بين البيت المقدس والبيت الحرام: {ألَمْ تَعْلَمْ} يا سيد الرسل: {أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} من نسخ وتبديل وتغيير: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} يتصرف فيه كيف يشاء ويريد: {وَما لَكُمْ} أيها الناس: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إذا أنزل عليكم عذابه بسبب مخالفتكم: {مِنْ وَلِيٍّ} يتولى أموركم أو يتولى عليكم فيحفظكم من عذابه: {وَلا نَصِيرٍ} يمنعكم من حلوله بكم، أو يشفع لكم عنده.
وسبب نزول هذه الآية أن المشركين قالوا إن محمدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه ويأمرهم بغيره، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، فما هذا إلا من تلقاء نفسه، فلو كان من عند اللّه كما يقول لما فعل ذلك.
وقيل إن اليهود هم القائلون لهذا القول لا المشركون، لأن حضرة الرسول في بداية أمره كان يتعبد على ما ألهمه اللّه من شريعة جده إبراهيم عليه السلام والأنبياء بعده، فكلما نزل عليه مما هو معدل لشريعة من قبله يفعله ويترك ما كان يفعله قبلا، ويأمر أصحابه بفعله ويخبرهم بأمر اللّه به، لأن شريعته جاءت خاتمة للشرائع كلها ناسخة لما قبلها، فبين اللّه تعالى في هذه الآية حكمة النسخ، وأنه من عنده لا من عند محمد قطعا كما تكلم به اليهود أو المشركون.
ونزولها في اليهود أولى، لأن هذه الآية مدنية، والغالب على سكانها اليهود، وهم الذين يجادلون حضرة الرسول بما نزل إليه من ربه مخالف لكتابهم، وإن ما نزل في المشركين هو آية الأنعام المذكورة آنفا رد لقولهم: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}.
واعلم أن النسخ في اللغة النقل والتحويل، ومنه نسخ الكتاب بأن ينقل من كتاب لآخر، وهذا لا يقضي بإزالة الصورة الأولى بل بإثبات مثله في كتاب آخر، فعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، لأنه نسخ من اللوح المحفوظ وأنزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة، وهذا ليس مرادا هنا.
وقد يكون النسخ بمعنى الرفع والإزالة، وهو إزالة شيء بشيء يعقبه، كنسخ الشمس للظل، والشبب للشباب، وعلى هذا يكون بعض القرآن منسوخا وبعضه ناسخا، أي إزالة حكم بحكم آخر.
وفي اصطلاح العلماء رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه، ومنه يعلم أنه كما أن شريعة موسى عليه السلام نسخت الشرائع المتقدمة عليها كأنه قامت مقامها، وكما أن إنجيل عيسى عليه السلام عدل شيئا من أحكام التوراة بدليل قوله تعالى في الآية 50 من آل عمران الآتية: {وَمُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فكان القسم المعدل بفتح الدال من التوراة منسوخا بالمعدّل بكسر الدال من الإنجيل، أما الزبور المنزل بينهما إذ لا يوجد فيه أحكام ولا حدود فلم يتعرض له، لأن مصلحة البشر المحتاجة للتعديل بحسب الزمان، والحاجة تتعلق بالأحكام والحدود فقط، أما الأدعية والاستغاثات الواردة في الزبور وغيره من الكتب والصحف القديمة فلا علاقة لها في هذا البحث.
فكذلك القرآن العظيم عدل جميع الشرائع المتقدمة عليه فكل حكم مناف لما فيه فهو منسوخ به، وما لا فهو باق على حكمه لموافقته أحكام القرآن، والسبب في ذلك أنه هو الكتاب الإلهي الأخير الذي جاء صالحا لأمور الدنيا والدين إلى آخر الزمان، ولأن مشروعية النسخ إنما تكون للحاجة والمصلحة، فقد كان في عهد آدم عليه السلام مساغ لأن يتزوج الأخ أخته لاقتضاء المصلحة وكثرة التناسل وحاجة الزوج للزوجة وبالعكس، فلما تكاثر النسل وصاروا في غنى عن ذلك حرمت الأخت، وأبيحت ابنة العم والخال وما بعدها، وكان في عهد نوح عليه السلام مساغ لأكل جميع الحيوانات، ثم اقتضت المصلحة بتحريم بعضها لما فيه من الضرر لوجود الإنسان، وبعضها لما فيه الحاجة للإنسان، وفي الأيام أيضا فقد حرم السبت على بني إسرائيل إلى زمن عيسى، فأبيح وحرم الأحد إلى مبعث محمد فأبيح وخصّت الجمعة بالتفضيل على غيرها، ولم يحرم العمل فيها إلا وقت الصلاة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 10 من سورة الجمعة الآتية.
وفي الجماد أيضا فقد كان البيت المقدس قبلة لمن قبلنا فأبدل بالكعبة، والنسخ في الأيام والجماد لحكمة لا نعلمها، لأن الظاهر أنه لا لحاجة البشر ولا لمصلحتهم وليس علينا أن نعرف العلة لكل ما حرم اللّه وحلل أو نهى وأمر، بل علينا الامتثال والقبول، لأن أفعال اللّه هو سبحانه أعلم بعللها، كما أنه لا يسأل عما يفعل، وعليه فإن النسخ فيما ذكرنا جائز عقلا وشرعا لا ينكره عاقل، وإن القرآن العظيم ناسخ لجميع ما يخالفه من الكتب والصحف السماوية المتقدمة عليه بلا خلاف، وبعض آيه ناسخ لبعض عند كثير من المفسرين، والأقل قالوا بعدم النسخ وهو الأصح على المعنى المراد به إزالة الحكم من جميع جهاته، أما من بعضها فلا ينكر، لأنه عبارة عن تخصيص العام وقيد المطلق، وقد جرينا على ما جرى عليه القليل، والقليلون هم الممدحون في كتاب اللّه وكلام رسوله، ونسأل اللّه أن يجعلنا منهم.
وقد أجمعت العلماء على أن ثلاثا وأربعين سورة من القرآن لم يدخلها ناسخ، ولم يكن فيها منسوخ وهي: الفاتحة ويوسف والحجرات والرحمن والحديد والصف والجمعة والتحريم والملك والحاقة ونوح والجن والمرسلات والنبأ والنازعات والانفطار والمطففين والانشقاق والبروج والفجر والبلد والشمس والليل والضحى والانشراح والتين والقلم والقدر والبينة والزلزلة والعاديات والقارعة والتكاثر والهمزة وقريش والماعون والكوثر والنصر والمسد والمعوذات الثلاث.
ويوجد فيه ست سور فيها ناسخ ولا منسوخ فيها وهي: الفتح والحشر والمنافقين والتغابن والطلاق والأعلى.
وأربعون سورة فيها منسوخ ولا ناسخ فيها وهي: الأنعام والأعراف ويونس وهود والرعد والحجر والنحل والإسراء والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر وفصلت والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف ومحمد وق والنجم والقمر والامتحان والمعارج والقيامة والإنسان وعبس والطلاق والغاشية والتين والكافرون.
وما بقي وهو سبع وعشرون سورة فيها ناسخ ومنسوخ، وقد أشرنا إلى كل في محله فيما سبق، وسنبينه كذلك فيما يأتي إن شاء اللّه تعالى، وما ذكرنا في المقدمة في باب الناسخ لتفنيد القول بأن السنة لا تنسخ القرآن، كان استنباطا من هذه الآية وأقوال جهابذة العلماء، لأن السنة مهما كانت متواترة وصحيحة فلا تكون خيرا من القرآن ولا مثله أيضا من كل وجه، واللّه تعالى يقول: {بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها} وحديث لا وصية لوارث المتمسكين به قوال النسخ ليس ناسخا لآية لوصية الواردة في الآية 181 من هذه السورة، بل هي على قول القائلين بالنسخ منسوخة بآية المواريث [11: 12] من سورة النساء الآتية، لأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية وهي مانعة من الوصية لذكر أصحاب الاستحقاق فيها، أما على القول بعدم النسخ فسنأتي على ذكره عند تفسير الآيتين المذكورتين وسنتعرض لبحث النسخ عند كل آية قيل إنها منسوخة كما فعلنا في القسم المكي، وتبين أن النسخ على رأي القائلين به عبارة عن رفع حكم بعض الآيات بآية تأتي بعدها تخصص عمومها أو تقيد إطلاقها مثل آية عدة الوفاة بالحول التي نزلت بعدها الآية بأربعة أشهر وعشرة أيام، كما ستقف عليه، وكالآيات الست لمتقابلات التي ذكرناها في المقدمة في بحث النسخ، لأن في الثلاث الأول نوع تشديد ومشقة كقيام الليل كله، ومقابلة الواحد بالعشرة في الجهاد، وتقديم الصدقة عند مخاطبة الرسول، وفي الثلاث الأخر نوع تخفيف ويسر كقيام بعض الليل ومقابلة الاثنين بالواحد، وعدم تقديم الصدقة وفي بعض الآيات كثرة الثواب عن بعض، كصيام رمضان عن الأيام المعلومات والمعدودات لأنه أكمل، وهكذا، فيثبت لك من هذا أن القرآن لا منسوخ فيه البتة، وإن جميع ما أنزل على محمد صلّى اللّه عليه وسلم ثابت فيه لم يغير ولم يبدل ولم يترك منه شيء كما أوضحناه في المقدمة، وأن الحديث الذي رواه البغوي بغير سند عن أبي أمامة بأن قوما أرادوا أن يقرأوا سورة من القرآن فلم يذكروا منها إلا بسم اللّه الرحمن الرحيم، وأن الرسول قال لهم رفعت تلاوتها وحكمها، فهو حديث غير صحيح، وهو ورواته من الضعف بمكان لا يصح الركون إليه، لأن القوم مجهولون والحديث بلا سند، ومثل هذا لا يرد على تعهد اللّه تعالى في حفظ القرآن الذي ألمعنا إليه في الآية 10 من سورة الحجر والآية 42 من سورة فصلت.
ثم وصى اللّه تعالى المؤمنين بالثقة برسولهم وترك اقتراح الآيات ورد طعن المشركين واليهود بالنسخ، إذ جرّد الخطاب عنه وخصه بهم، فكأنه قال إياكم أن تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان بقوله جل قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ} إذ سأله جماعة من أمته بعد أن أسمعهم كلام اللّه أن يريهم إيّاه عيانا، كما مر في الآية 56، فأهلكهم اللّه، أي من شأن العاقل أن لا يتصور ذلك وفي هذه الوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها، ولا يتوقف مضمون هذه الآية على تقدم سؤال أو سابقية وقوع حال، لأنها عبارة عن توصية، والتوصية لا تقتضي شيئا من ذلك، كيف وهو كفر كما أشار إليه الإله عزت إشارته بقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ} وهو مما لا يكاد يقع من المؤمن.

.مطلب: الاختلاف في سبب نزول الآية 108 وتفنيد الأقوال فيها ومجهولية الفاعل:

واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية مع أن مثلها لا يحتاج إلى سبب كما ذكرنا، وهكذا الحال في الوصايا فقال بعضهم إن المسلمين اقترحوا على رسول اللّه في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات النواط كما كان للمشركين، فقال صلّى اللّه عليه وسلم سبحان اللّه هذا كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَة} والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا.
وإضافة الرسول إليهم إضافة إلى ما في نفس الأمر، وهذا بعيد، لأن غزوة خيبر وقعت في السنة السابعة من الهجرة وسورة البقرة هذه من أول ما نزل بالمدينة.
وقال بعضهم: إن اليهود قالوا يا محمد سل ربك أن ينزل عليك كتابا من السماء جملة واحدة كما أنزل التوراة على موسى، واختار هذا القول الفخر الرازي، وقال إنه الأصح، لأن المخاطب به في هذه السورة هم اليهود، والإضافة إلى ما في نفس الأمر دون الإقرار، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون مستبدلا به الكفر بالإيمان، وهو وجيه، لأن النبي أول وصوله المدينة أراد منهم الإيمان به، فجدير أن يطلبوا منه آية، إلا أنه سبق قبلها الخطاب للمؤمنين إذ صدر الآية بقوله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا} إلخ ولم يأت بعدها ذكر لليهود، وقال بعضهم وهو قول ابن عباس إن أهل مكة سألوا محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن بوسع عليهم أرض مكة ويفجر فيها الأنهار فنزلت، وهذا قد فات محله في سورة الفرقان في الآيتين 60 فما بعدها من سورة الإسراء، لأن الحادثة مكية، وقد نزلت فيها الآيات بمكة، وهذه السورة مدنية، فلا يتجه شيء من هذه الأسباب لنزول هذه الآية، وقد ذكرنا في بحث النزول في المقدمة أن من القرآن ما ينزل بسبب ومنه ما ينزل بلا سبب، ولعل هذه الآية من القسم الثاني وهو الأوجه واللّه أعلم.
على أن كلا من هذه الحالات الثلاث قد تكون الآية جوابا للسؤال عنها، لكن لا أنها سبب لنزولها، تدبر.
ولم يقل جل قوله كما سأل أمة موسى إشارة إلى أن من سأل عن ذلك يصان اللسان عن ذكره وهذا أحد أسباب مجهولية الفاعل السبعة وهي الجهالة والخوف منه وعليه وتعظيمه وتحقيره والعلم به وصون اللسان عن ذكره.
هذا، واعلم- واللّه أعلم- أن القصد من ذكر هذه الآية بعد آية النسخ تثبيت المسلمين على الأخذ بآيات اللّه وتنبيههم بعدم الإقدام على أسئلة كأسئلة اليهود وتحذيرهم منها وتوصيتهم بالثقة بها.
قال تعالى: {وَدَّ كَثِير مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ} أيها المؤمنون: {كُفَّارًا} لتكونوا مثلهم: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} لا لأمر آخر وذلك: {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} في التوراة والآيات المنزلة على نبيكم الموافقة لها المؤيدة لحكمها: {فَاعْفُوا} عنهم لا تجادلوهم: {وَاصْفَحُوا} عن إساءتهم لا تخاصموهم واصبروا عليهم: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} في جواز قتالهم: {إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} لا يعجزه شيء، وفي هذه الجملة إشارة إلى التهديد بالانتقام منهم ووعد للمؤمنين بالنصر عليهم.
وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا يستقيم، لأن الأمر فيها موقت بالغاية الدالة عليه: {حَتَّى} وإذ كانت الغاية غير معلومة فتكون آية السيف بيانا لها، وما قاله الطيّبي بأن النسخ بما جاء في التوراة والإنجيل من ذكر محمد فيكون انتهاء المدة بإرساله لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية: 107: من سورة الأعراف لا يتجه أيضا، لأن غاية ما فيها البشارة بشرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه، وهذا لا يوجب توقيت الأحكام ولا يقتضي النسخ.
وهذه الآية حاكية حال أهل الكتاب منبهة على التحذير من الإصغاء إليهم والأمر بعدم عقوبتهم على ذلك القول الذي هو من أعظم الذنوب، لأن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بمحاولة ردّ المؤمن إلى الكفر، لأن معنى العفو ترك العقوبة على الذنب وعدم تثريبهم عليه أيضا، ولأن معنى الصفح ترك التأنيب وهو أبلغ من العفو، لأن الإنسان قد يعفو ولا يصفح.
وما قيل إنها نزلت في أحبار اليهود أو نفر منهم حينما قالوا للمسلمين أو لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هربتم فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم، فقال عمار وكيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال إني عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت، قالت اليهود أما هذا فقد صبا، وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت باللّه ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا، ثم إنهما أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأخبراه بذلك، فقال قد أصبتما الخير وأفلحتما وما استدل به صاحب هذا القيل بما رواه الواحدي عن ابن عباس فليس بشيء، ولم يوقف على صحته ولا على سنده، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث.
قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} أيها المؤمنون ولا تلتفتوا لأقوالهم فهو أقوى لكم ولا بأفعالهم فهي أفعى لكم: {وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ} ولو بكلمة طيبة أو إماطة أذى ما عن الطريق أو إسقاء الماء على الماء، وفي هذا تأكيد للعفو والصفح المذكورين آنفا وترغيب للقيام بهما، لأنهما من أعظم أنواع الخير، أما ما قاله بعضهم بأنه خاص بالصلاة والزكاة فهو خلاف الظاهر، لأنه مطلق خير، فإن عملتموه أيها المؤمنون: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} تروا ثوابه في الآخرة: {إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير} لا يخفى عليه شيء منه وأنه ينظر في كل شيء من أعمالكم ويجازيكم عليها: {وَقالُوا} أهل الكتابين: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى} فرد اللّه عليهم بقوله جل قوله: {تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ} أي ذلك ما يتمنعونه على اللّه من الأباطيل، وهو قول لا حقيقة له، لأنه لابد وأن يصدر من اللّه الذي بيده إدخال الجنة من يشاء من عباده، ثم كلف حبيبه بطلب الحجة منهم على قولهم بقوله عز قوله: {قُلْ} لهم يا سيد الرسل: {هاتُوا بُرْهانَكُمْ} على دعواكم هذه مما أنزل اللّه عليكم في كتابكم: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في ذلك، نزلت هذه الآية عند ما تناظر نصارى نجران مع يهود المدينة، وسيأتي بيان هذه المناظرة في أوائل سورة آل عمران الآتية بما يدل على أن هذه الآيات نزلت بعد سورة البقرة ووضعت هنا تبعا لسورتها كما هو الشأن في أمثالها، تأمل.